• المدير العام ( المفوض ) .. عماد شاهين
  • يمكنك الاعتماد على وكالة العراب الاخبارية في مسألتي الحقيقة والشفافية
  • رئيس التحرير المسؤول .. فايز الأجراشي
  • نتقبل شكواكم و ملاحظاتكم على واتس أب و تلفون 0799545577

عصر التفاهة: القيادة، التعليم، والعمل في عالم بلا جوهر

صفحة للطباعة
تاريخ النشر : 2025-12-09
461
عصر التفاهة: القيادة، التعليم، والعمل في عالم بلا جوهر

 

م. سعيد المصري

 

يعيش العالم اليوم تحوّلًا غير مسبوق في مصادر النفوذ وصناعة القرار. لم يعد الحكم والسلطة والثروة مرهونة بالكفاءة أو المعرفة أو الرؤية الطويلة، بل أصبحت مرهونة بقدرة غير اعتيادية على صناعة الصورة، التأثير اللحظي، والتحكم بالانتشار الرقمي. هذا التحوّل، الذي يسميه الفيلسوف الكندي ألان دونو “عصر التفاهة”، لم يأتِ من فراغ، بل نتج عن تحوّل عميق في الطريقة التي ننظر بها إلى العمل العام، والتعليم، والاقتصاد، والمعرفة.

الشعبوية: سلطة الانفعال قبل المعرفة

أصبحت السياسة اليوم أشبه بفضاء للتسويق أكثر من كونها مؤسسة لصناعة القرار. كثير من الزعماء لا يصعدون ببرامج اقتصادية أو رؤية اجتماعية، بل بصناعة الانفعال والتأثير الجماهيري، عبر:
   •   لغة بسيطة
   •   عدو واضح
   •   شعارات قصيرة
   •   استعراض إعلامي متكرر

وبذلك تتحول السياسة إلى معركة رمزية، لا مشروعًا عقلانيًا. تنجح الشعبوية لأنها تمنح كل شيء تفسيرًا سريعًا، بلا تعقيد، وبلا تكلفة معرفية. فبدل بناء سياسة، تُبنى حالة شعورية. وبدل قيادة فكرية، يُصنع جمهور مُستثار. وهكذا تنتقل السلطة من الكفاءة والإدارة إلى التأثير الرقمي والرأي العام.

إن أخطر ما في الشعبوية أنها تُضفي على التفاهة شرعية سياسية، وتجعل من القدرة على صناعة الضجيج قوة موازية لصناعة القرار.


التعليم: من صناعة العقل إلى صناعة الشهادة

يبدأ عصر التفاهة من المدرسة. لم يعد التعليم سعيًا لتشكيل الإنسان، بل أصبح عملية تنظيمية لإنتاج شهادات. الطالب لا يُطالب بالفهم، بل بالاجتياز. والمدرسة لا تُكافئ الأسئلة أو التفكير، بل الانضباط القائم على الامتحان.

النتيجة أن المدرسة تنتج أجيالًا تعرف كيف تنجح في الاختبارات دون أن تمتلك وعياً أو رؤية أو حسًا نقديًا. يختفي السؤال، وتختفي الحيرة، ويصبح التعليم مجرد “خط إنتاج” وظيفته أن يمرّ الطلاب عبره بأقل قدر من التفكير.

الجامعة: من محراب المعرفة إلى سوق للخدمات الأكاديمية

تمدد عصر التفاهة إلى الجامعة، حيث تُقاس القيمة الأكاديمية اليوم بأدوات شكلية لا بجوهر المعرفة. لا يُقاس الأستاذ بتأثيره الفكري أو قدرته على خلق مناظرات فكرية، بل بعدد المقالات المنشورة، حتى لو كانت بلا أثر حقيقي. ولا يُعامل الطالب بوصفه عقلًا يُصنع، بل بوصفه زبونًا يحتاج شهادة.

الجامعة تتحول تدريجيًا إلى مؤسسة ترضى السوق ولا تصنع المجتمع. هي مكان لإنتاج موظفين، وليس لإنتاج مفكرين أو مبدعين أو مؤرخين أو اقتصاديين يغيرون شكل العالم. وعندما تفقد الجامعة دورها الثقافي، يفقد المجتمع قدرته على صناعة نخبة فكرية جديدة.


العمل العام: حياد إداري بلا خيال

في القطاع العام، يتصدر المشهد التنفيذيون الذين يعرفون كيف يحافظون على الوضع القائم، لا كيف يغيرونه. تُكافأ القدرة على تنفيذ التعليمات بلا اعتراض، وتُحاصر المبادرة، ويُستبعد التفكير المستقل. وفي دول العالم الثالث، أصبح العقل النقدي خطراً على النظام، ولا قيمة له داخل البيروقراطيات والمؤسسات العامة، إذ يُنظر إلى التفكير الحر والمساءلة بوصفهما تهديدًا لا ضرورةً. وبذلك تتحول الوظيفة العامة إلى مسرح للاستقرار قبل الابتكار، ويصعد من لا يعارض، لا يشكك، لا يغامر، ولا يضيف.


القطاع الخاص والتنفيذيون: نجاح في الإدارة… لا في الرؤية

تظهر التفاهة بأوضح صورها في عالم الأعمال، حيث يصعد المدير التنفيذي اليوم أكثر بقدرته على التسويق، الامتثال، والعلاقات من صعوده بقدرة فكرية أو مشروع استراتيجي.

الولايات المتحدة

في أميركا، يقف النجاح على قدرة الشركة على رفع قيمتها السوقية عبر الإعلام ورأس المال المغامر، حتى قبل أن تنضج منتجاتها. المدير يصبح نجمًا لمجرد أنه يعرف كيف يصنع ضجيجًا حول شركته، لا كيف يبني مؤسسة ذات جوهر. تُكافأ القيمة الاسمية للأسهم قبل القيمة الإنتاجية، ويُنظر إلى الابتكار باعتباره سردًا تسويقيًا قبل أن يكون علمًا أو صناعة.

أوروبا

في أوروبا، لا تكون التفاهة صاخبة، بل نظامية. الوظيفة التنفيذية تُكافئ الإدارة الآمنة قبل الجرأة. المدير ناجح في الامتثال وتقليل المخاطر، لكنه ضعيف في اتخاذ قرار استثنائي أو تغيير المسار. شركات مستقرة بلا شك، لكنها بطيئة في ابتكار المستقبل لأن النظام الإداري يُفضّل الانضباط قبل التخيل.

شرق آسيا

أما في شرق آسيا، فالتفوق يأتي من القدرة التشغيلية الهائلة والانضباط العالي. لكن الإبداع غالبًا يكون تحسينًا تدريجيًا لا ثورة فكرية. المدير التنفيذي ناجح في الأداء، لكنه يعمل داخل منظومة تُفضّل الطاعة على الجرأة الفكرية، والتدرج على اختراق القواعد. إنه ابتكار داخل الإطار، لا إعادة تشكيله.


القاسم المشترك

سواء في أميركا أو أوروبا أو شرق آسيا، فإن التنفيذي يصعد لأنه يجيد:
   •   تسويق نفسه
   •   إدارة المخاطر
   •   تنفيذ النظام

أكثر من صعوده لأنه يصنع معنى أو يؤسس رؤية أو يقترح مسارًا جديدًا. وهكذا يتحول الاقتصاد العالمي إلى حركة بلا اتجاه، ونجاح بلا مشروع، وقيادة بلا خيال.


أزمة عصر التفاهة

الخطر الأكبر ليس في وجود التفاهة كسلوك، بل في تحولها إلى نظام إدارة اجتماعي واقتصادي وثقافي، يرفع التنفيذيين بلا رؤية، ويقصي المفكرين والمبدعين والنقاد. وبهذا يصبح العالم أكثر قدرة على التحرك، وأقل قدرة على أن يعرف إلى أين يمضي.

عندما تغيب النخبة الفكرية، ويغيب التعليم الناقد، وتغيب القيادة الرؤيوية، يصبح المستقبل مجرد استمرار تقني لما هو قائم، لا إعادة اكتشاف للإنسان والمعنى والعدالة.

المعنى لكل ما كتب

إذا استمر هذا المسار، فسوف نعيش عالمًا:
   •   بلا نخبة فكرية تقود الوعي
   •   بلا تعليم يصنع الإنسان
   •   بلا اقتصاد يمتلك مشروعًا
   •   وبلا إدارة تمتلك خيالًا

عصر التفاهة لا يهدد الدولة والمجتمع اليوم، بل يهدد مستقبل الوعي وقدرة الإنسان على التحول. إنه نظام يرفع الحركة ويصمت العقل، ويمنح المنصب لمن يجيد تمثيل الدور أكثر من امتلاكه جوهر الدور.
أضافة تعليق


capcha
كافة الحقول مطلوبة , يتم مراجعة كافة التعليقات قبل نشرها . :
العراب نيوز صحيفة الكترونية جامعة - أقرأ على مسؤوليتك : المقالات و الأراء المنشورة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها و لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العراب نيوز.